الاتعاظ بالأمم السابقة
لقد عرض القرآن الكريم موضوعات كثيرة إذ تناول فيما تناول أكثر الجوانب الفكرية, والثقافية المرتبطة بالحياة, والموت, والمجتمع سواء ما يتعلق منها بالعقيدة أم بالتشريع أم بالأخلاق أم الحكم والعلاقات الاجتماعية أم التاريخ ثم مسيرة الأقوام الذين عاشوا في القرون الغابرة وما بعدهم في عصرا لرسالات وهذه الآيات المباركة إشارات بالغة الأهمية تضمنها سياق ذو قيمة بالغة وبالصورة المنغّمة, الملحّنة والتي قد نمر بها ولا نلتفت إلى ماتعكسه من فكر, وما تطرحه من قضايا حيوية, وثيقة الصلة ببناء المجتمع وحركته وقد يقتضي النظر العلمي حركة من الإنسان كالسير في الأرض للنظر في مصير الغابرين ومعرفة أسباب دمارهم وخلاصة البصيرة التي يستفيد منها العاقل من نظرته في تاريخ الغابرين ممن أفسدوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد وكانت عاقبتهم الدمار, والهلاك إذ إن هذا الهلاك لم يكن عن ضعف مادي فيهم بل بسبب ضلالتهم وتمردهم على رسالات ربهم وفضلوا الحياة الدنيا على الآخرة وذلك الوباء الويل وقد حكم عليهم القرآن الكريم بالعمى والضلالة إذ إنهم اتهموا دعوات الرسل والأنبياء باتهامات كثيرة وبأساليب باطلة ورخيصة التي لاتقوم على الحق لذلك وردت الآيات القرآنية لتبين للناس عما فعلت تلك الأقوام الضالة وما كان مصيرهم إلا للعظة والعبر فقد ورد في سورة يوسف آية111 قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} لذلك ساختاربعض هذه الآيات التي تتحدث عن تلك الأقوام.
ـ {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}30.
ـ {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ}31.
ـ {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}32.
- {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ }33.
- {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}34.
- {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}35.
- {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}36.
- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ}37.
- {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا}38.
- {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}39.
- {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}40.
ونستلهم من الآيات المذكورة آنفاً إن تلك الأمم تم هلاكها, ودمارها وتدل آثارها الباقية على أنها كانت تبحث عن الخلود في أمور تكثير أعدادها وتنمية عدتها وبناء آثار في الأرض ولم يتصلوا بالله عز وجل اتصال العبد بخالقه وإطاعة أمره ونواهيه إلا أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن ذلك الاتجاه القويم والصراط المستقيم...
ـ الأقوام والأمم اللاحقة هل اتعظت بالأقوام السابقة
فرض الله سبحانه وتعالى عقوباته الصارمة على تلك الأقوام كما وضحتها الآيات السابقة وكما ذكرت آنفا بسبب ظلمهم وعنادهم كانوا يبغون في الأرض بغير الحق وقلوبهم لاهية واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا فضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}41 وكانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ}42.
والبقية هنا في هذه الآية كناية عن الفضل, والتعقل, والمقصود بهم القلة الواعية من الأمم السابقة ويقول الطبرسي: والبقية ما بقي من الشيء بعد ذهابه وهو الاسم من الإبقاء وهو فضل مما يمدح به وخير وكأنه قيل بقية خير من الخير الماضي43.
إذن هل استفادت المجتمعات الحاضرة من التجارب التي مرت بالمجتمعات السابقة ؟وقبل الإجابة نسأل عن الأقوام الذين عاصروا الرسالة المحمدية هل استفادوا من النبي الأعظم(ص) وهو بين أظهرهم والآيات القرآنية تنزل عليه وهو فيهم ؟وللإجابة عن ذلك يجيب القرآن الكريم بكل صراحة {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} والكثير من هؤلاء القوم الذين يعدونهم من الصحابة كان استماعهم للنبي(ص) لم يكن طلبا للحقيقة بل لإغراض أخرى كالذين كانوا يستمعون للقرآن ليكيلوا له التهم المختلفة كالسحر, والشعر, ونحوهما وربما يكون استماعهم لمجرد حب الاستطلاع من دون عزم على معرفة الحق وتحمل المسؤولية .
ـ {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ}44.
ـ {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}45.
ومن صلفتهم وعنادهم وغيهم قال عنهم القرآن الكريم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}46 حتى وردت آية عن لسان الرسول(ص): ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً))47.
هؤلاء القوم الذين عاصروا النبي(ص) {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ..}48.
لذلك فان الله سبحانه وتعالى خاطب رسوله الكريم بآيات كثيرة يأمره بالصبر والتوكل عليه سبحانه .
- {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً}49.
- {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}50.
- {فَأصبِر لِحُكمِ رَبِّكَ..}51.
- {وَلِرَبِّك فَأصبِر..}52.
- {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}53.
- {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ..}54.
وكذلك أمره بالاستمرار بالدعوة والاستقامة ...
- {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ..}55.
- {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ..}56.
هذا هو موقف المجتمع في عصر الرسالة فهم لن تنفعهم العظة والعبرة من الأقوام التي سبقوهم ولا أريد ان أقول أو اجزم بعدم وجود المصلحين الذين تأثروا بالرسول الكريم وأصبحوا من حوارييه ومخلصيه ـ حاشا لله ـ ولكنهم كانوا بإعداد قليلة جدا كما قيل في قوم نوح(ع): {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلا قَلِيل..} لذلك جاء ذكر هؤلاء القوم المصلحين في القرآن الكريم في آيات كثيرة وفي سور متعددة:
- {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً..}57.
- {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ..}58.
هؤلاء المخلصون والصادقون والمجاهدون أحسنوا النية في إيمانهم وتعمّقوا في سبر العقيدة والمبدأ فحصلوا على عطر الخلود أمثال عمار بن ياسر وأبو ذر والمقداد وسلمان المحمدي وآخرين....
أما المجتمعات الحاضرة ولاسيما الشرق (فإنها اليوم الفوضى الخلقية والاجتماعية والسياسية وموئل المخدرات ومسرح الترف والمجون)59 فحكومات جائرة يحرم فيها الأفراد من نعمة القانون والعدالة والحق
والفضيلة فالحكام يفرضون إرادتهم بإراقة الدماء والتجاوز على حقوق الآخرين واضطهاد الشعوب وإيذائهم والأعمال لاتقسم بين الناس في هذه الدول الاستبدادية على حساب الكفاءات والقابليات فلا قيمه للخبرة أو العلم بل سلسله من أجل إرضاء الحكام وبدهي أن الأساليب تجر وراءها سلسلة متواصلة من الفساد, والإجرام, والانحطاط والتأخر والانتهازية والنفاق ويكثر فيها الجدل ويقل فيها العمل هؤلاء الأقوام لم يتعظوا بمن سبقوهم من الخارجين عن قانون السماء ومصائرهم السوداء والرسول الكريم(ص) يقول: (اغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال)60. وكان أمير المؤمنين وسيد الوصيين يتحدث إلى الناس ويقول لهم(ع): ((اتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم))61.
ويقول (ع): ((وبحق أقول لكم لقد جاهرتكم العبر))62 أي أتت لتنبهكم جهرا وصرحت لكم بعواقب أموركم.
ويظهر مما سبق بان اتجاه نفوس الناس في كل عصر وزمان, وقلوبهم الى الدنيا اكثر من اتجاهها الى الدين والمخلصون المؤمنون قليلون يعيشون غرباء في هذه البيئة الجديدة القديمة وعلى الرغم من ذلك فان تلك الثلة من المؤمنين كانوا يدعون ربهم خوفا وطمعا قائلين: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}63.
وهؤلاء كانوا {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...}64.
إنهم فضلوا الدار الآخرة على الدار الدنيا واستنصحوا لله فوفقوا واتخذوا أقوالهم دليلا فهداهم الله للتي هي أقوم فآمنوا بعد إن جاوروا الله فخصهم الله بالإسلام وأستخلصهم له.
أما الذين جعل الله على قلوبهم اكنة وفي أذانهم وقرا وابتعدوا عن الصراط المستقيم وأحبوا الدنيا وركنوا اليها واتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا واتخذهم الشيطان له إشراكا والإمام علي(ع) يقول فيهم: ((فباض وفرخ في صدورهم ودب ودرج في حجورهم فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم فركب بهم الزلل وزين لهم الخطل))65 (فاهلكوا بطول آمالهم وتغيب آجالهم حتى نزل الموعود التي ترد عنه المعذرة وترفع عنه التوبة وتحل معه ألقارعه والنقمة)66. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..}67. {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}68.
الهوامش:
30ـ النمل/69.
31ـ الروم/42.
32ـ آل عمران/11.
33ـ غافر/21.
34ـ فاطر/44.
35ـ الروم/9.
36ـ هود/102.
37ـ غافر/82.
38ـ يونس/13.
39ـ الانبياء/11.
40ـ القصص 58.
41ـ هود/117.
42ـ هود/116.
43ـ مجمع البيان ج5/ص304.
44ـ يونس/42.
45ـ محمد/16.
46ـ فصلت/26.
47ـ الفرقان/30.
48ـ مجادلة/19.
49ـ المعا رج/5.
50ـ المزمل/10.
51ـ القلم/48.
52ـ المدثر/7.
53ـ الإنسان/24.
54ـ إحقاق/35.
55ـ الشورى/15.
56ـ الشورى/15.
57ـ الحجرات/29.
58ـ المائدة/83.
59ـ الإسلام والأمن الدولي, ص87.
60ـ بحار الأنوار, ج68, ص324.
61ـ نهج البلاغة, ص65.
62ـ نهج البلاغة, ص45.
63ـ المائدة/84.
64ـ الحشر/9.
65ـ نهج البلاغة, ص33.
66ـ نهج البلاغة, ص236.
67ـ آل عمران/14.
68ـ الأنعام29.